الجمعة، 22 ديسمبر 2017

" جدي " في شراك امرأة ... بقلم الأديب الأستاذ / مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية. الدار البيضاء

أعزائي القراء سلام الله عليكم !
أتمنى أن تنال هذه القصة رضاكم وتلقى تشجيعاتكم.

" جدي " في شراك امرأة
لم تتح للأسف لكم الفرصة لتعرفوا جدي ! كان رجلا طيبا جدا ، وكريما جدا. كان يبلغ من العمر سبعون سنة، لكنك تظنه ابن الخمسين. كان مرحا ، يحب المزاح ، وكان من السهل أن تخدعه. كان يأخذ الناس على محمل الجد ، ولا يسأل دائما ليعرف كل شيء. كان رجلا ثريا ، ولم يكن يسأم من فعل الخير. أكتفي بإعطاءكم مثلا واحدا : كان جدي يهب أكثر من أربعين خروف كصدقة لبعض العائلات المعوزة من بين جيراننا ومعارفنا ، وذلك بمناسبة عيد الأضحى. كان ذلك يدخل عليه سرورا كبيرا. كل الناس كانوا يحبونه في الحي ، والكل كان يدعو العلي القدير بأن يمنحه الصحة وطول العمر.
كنا نعيش كلنا في دار جدي ، وكان عددنا كبيرا جدا. كان لأبي زوجتان ، أمي وامرأة أخرى ، وكان له سبعة أبناء. كنا نسكن في الطابق الأول ؛ وكانت عمتي ، والتي كان زوجها قد فارق الحياة تسكن في الطابق الثاني هي وأبناؤها الأربعة ؛ أما عن جدي ، فكان يشغل الطابق الأرضي : كانت ركبتاه تؤلمه كثيرا ، ولم يكن يقوى على الصعود والنزول كل يوم على السلم. لقد أصبح أرملا منذ أن كان أبي في سن العاشرة.
كنا إذن خمسة عشر فردا ، وكنا كلنا نجني فائدة كبيرة من وراء أموال جدي. كنا نرتدي أفخم الثياب في الحي كله ، ونأكل أحسن الطعام.
لقد جرت العادة أن نقضي ، وذلك منذ نعومة أظافرنا شهرا بأكمله في ضيعة جدي ، خلال كل فصل صيف. كان حقا رجلا غنيا جدا ! كان يجب أكثر من ساعتين لنرى قطعان الغنم والبقر وهي تعود إلى الضيعة في المساء ؛ أكثر من خمسمائة رأس ! وكان الإسطبل المخصص للخيل وحده يشبه مجمعا تجاريا كبيرا في اتساعه ! أما عن حقول القمح والذرة ، فلقد كانت تمتد على بعد النظر !
كانت صحة جدي تتدهور مع مرور الوقت ، فغالبا ماكان يسقط مريضا. نصحه ثلاثة أطباء بنفس الشيء ، ألا وهو العيش في البادية ؛ فهواء المدينة الملوث لم يعد يوافقه بتاتا. وكان كذلك. لم يكن جدي مسرورا لتركه المدينة ، وكل أصدقائه الموجودين فيها ، لكن أوامر الطبيب تأتي فوق كل اعتبار ، إن هو أراد الشفاء !
لم يغير هذا الحدث شيئا في حياتنا ، فأموال جدي مازالت حاضرة لتلبي كل رغباتنا.
مرت سنتان ونصف وجدي يقيم بالبادية ، لكن حالته المزرية لم تكن توحي بالإطمءنان. وفي صباح أحد الأيام ، تلقينا تلغرافا مفاده أن جدي قد مات.
ياللخطب المفجع ! لقد غادرنا جدي إلى حيث لا رجعة. كنا نحبه كثيرا. لم يكن فقط كريما ، بل كان أيضا ودودا. كان يشاركنا همومنا، يناقشنا مشاكلنا ، يغرق في الضحك عند سماع نكثنا . . كم سأشتاق إليه ! كان يحبني كثيرا ، وكنت بالنسبة له أجمل فتاة في العالم !
السؤال الذي يطرح نفسه ويجعلنا نرتبك هذه الأيام هو كالتالي : هل ستستمر الحياة كما كانت عليه قبل وفاة جدي ؟ بعبارة أخرى ، هل ستظل أموال جدي تلبي كل احتياجاتنا ، رغم عدم وجوده هو بيننا ؟
مرت ستة أشهر ونحن نعيش في حيرة دائمة. لم يكن ينقصنا شيء في حقيقة الأمر، لكننا كنا نتخوف من المستقبل ، ومايمكن أن تخبأه لنا الأيام. لم يكن يعلم أبي بهذا ، لكن ماإن أخبرته أمي عن حجم حيرتنا التي لايمكن تجاهلها حتى أسرع ليطمإننا :
- يجب أن تعلموا أنه ليس لجدكم وارث آخر بالإضافة لنا نحن الإثنين : أختي ، عمتكم ، وأنا ! إذن ، لاداعي للقلق !
- بالتأكيد ، أبي ؛ لكن . .
- من غير " لكن " ياولدي ! ثم دعوني أطلعكم قبل كل شيء على القرار الذي سبق واتخذته ! سأستقيل من هذا العمل الذي لاأجني من ورائه شيئا، ثم سأرحل إلى البادية لأقيم هناك ، وهذا كله من أجل أن أباشر بنفسي كل تلك الخيرات التي تركها لنا جدكم !
لم يكن أحد يشاطر أبي الرأي، وذلك لعدة أسباب. كانت عمتي هي من أخذ الكلمة في بادئ الأمر :
- عفوا أخي ، لم تكن فكرتك طيبة ! تترك أبناءك لتذهب . .
قال أبي ، وهو يقاطعها بعصبية : حسن ! ماذا تقترحين أنت ؟
- بالنسبة لي ، يجب أن . .
- أن ماذا ؟ تكلمي !
سكتت عمتي لتقول ، بعد مرور ثواني قليلة :
- يجب أن نبيع كل شيء . .
- ماذا ، نبيع كل شيء ؟!
- نعم ، نبيع كل شيء لنستفيد من كل الأموال التي سوف نجنيها من وراء هذا البيع !
توترت أعصاب أبي الذي لم يوافق على هذا الإقتراح ، فكانت عمتي أكثر حكمة لتعيده إلى الصواب. قالت له وهي تطمءنه :
- صدقني أخي ، يمكن أن نفعل أشياء كثيرة بهذا المال !
رد أبي وهو مستاء جدا : وماذا عسانا أن نفعل ؟
- أشياء كثيرة ! هناك التجارة ، مثلا !
- التجارة ؟!
- ولم لا ! انظر جيدا ، عندنا ثلاثة أولاد ، وكلهم تجاوزوا سن العشرين ولايعملون أي شيء ؛ أفهمت ماأعنيه ؟
- آه ، ياأختي ! إن هؤلاء الأولاد الذين تتكلمين عنهم بكل هذا الحماس لايقدرون على فعل أي شيء !
كانت هذه العبارات جد مهينة ، مما أثار سخط إخوتي البالغين من العمر ، تباعا ثلاث وعشرين واثني وعشرين سنة ، ثم ابن عمتي الذي بلغ مؤخرا سن الواحد والعشرين. وهاهو أخي الأكبر يقول ، وقد قطب حاجبيه :
- يجب ألا تستهين بنا وتقلل من تقديرنا ، ياأبي ! نحن نقدر على فعل أشياء كثيرة !
قال أبي ، وبلهجة لاتخلو من التهكم : حقا ! تفضلوا إذن ، وأروني مايمكنكم القيام به !
- حسن ! أنا مثلا ، لو كان عندي محل لبيع ملابس الأطفال ، لأصبحت رجلا غنيا ، ولن تحتاجوا لأي شيء معي في حياتكم أبدا !
قالت عمتي بشيء من الفضول : أيمكن أن تشرح لنا وجهة نظرك ؟
- بالتأكيد ! في بلدنا ، بدأ الناس حاليا بهتمون بأبنائهم بطريقة لاتصدق ! فهم يتبعون الموضة ، شأنهم في ذلك شأن كل الناس المتشبعين بحضارة عالمية ، يتمتع فيها الطفل بكل الإمتيازات ، على ضوء حقوق الطفل في العالم ! أعتقد إذن أن هذا النوع من التجارة سيكون ، ولا محالة مربحا جدا !
صفق له الكل احتفاء بفكرته الرائعة ، ومن أجل معرفته بما يروج في السوق. ابتسم أبي خلسة ، الشيء الذي شجع أخي الثاني أن يقول ، وعيناه تلمعان : أما نوع التجارة الذي أقترحه عليكم أنا فهو أفضل بكثير مما جاء به أخي !
قالت أمي، وهي مرحة : وما هو نوع هذه التجارة ؟
- أنا أريد أن يكون عندي متجر خردوات .
- متجر ماذا ؟!
- خردوات. ألا يحتاج الناس دائما للمسامير والمطرقات والمناشير والأقفال ، وكل الأشياء الصغيرة المصنوعة من المعدن ؟ أظن أنكم ستحيون معي حياة سعيدة جدا !
كنت في غاية السرور وأنا أسمع أخي يتكلم على هذا النحو ! بعد هذا ، أصبحت كل الأنظار مصوبة نحو ابن عمتي الذي وقف فجأة ليجذب انتباه الجميع ، ثم قال : أما أنا ، فأريد أن أصبح صاحب محلبة !
- محلبة ؟!
- نعم. نحن نعلم كلنا أن الناس لايمكنهم الإستغناء عن الخبز والحليب والزبدة والجبن والعسل ، وكل الأشياء التي لايتوانى التلفزيون عن الإشادة بمزاياها عن طريق الإشهار ! أفهمتم ماأعنيه ؟
لست أدري ماالذي حصل لأمي ، لقد أصيبت بنوبة ضحك ! بعد ذلك ، استلقى الكل على قفاه من الضحك ، دون أن يعرف أحد السبب !

هاهو القرار الذي توصلنا إليه الآن جميعنا : سنبيع كل شيء ، وسنحتفظ فقط بالضيعة والأراضي المحيطة بها. وحسب تقديراتنا ، سوف نجني من وراء هذا البيع مالا كثيرا يصل إلى أربع أو خمس مائة مليون سنتيم ! سيأخذ كل من أبي وعمتي نصيبهما ، لكن بعد أن يكونا قد خصصا مائة وعشرين مليون سنتيم للمشاريع الثلاثة المتفق عليها : المحلبة ، متجر الخردوات ثم المتجر المخصص لثياب الأطفال.
مضى أكثر من أسبوع الآن على تواجد أبي بالبادية. لقد بدأ صبرنا ينفد. قالت لنا أمي بهدوء :
- إنه يبحث عن ألمشتري !
- أمضى كل هذا الوقت ، ولم يجد المشتري ! إننا في عجلة من أمرنا لنرى مشارعنا تتحقق !
- نعم ؛ إننا نتوق إلى عودته ومعه حقائب فيها مال كثير !
هاهو أبي يعود بعد يومين ، لكن لم يكن معه أي شيء ! نعم ، لم يكن يحتكم ولو على سنتيم واحد ! كان محبطا ، ولم يكن يدري كيف يجعلنا نعلم بالخبر المحزن الذي سبب له الأرق لبعض الوقت، وأفقده شهيته. ثم علمنا بكل شيء بعد ذلك.
يالخيبة الأمل ! ياللخطب المفجع ! كنا نتأوه من شدة الألم ؛ كنا نبكي ، ننتف شعرنا بشدة ، نخبط الباب برؤوسنا . . آه ياجدي العزيز ! لقد كنت شخصا رائعا ، لكنك ارتكبت أكبر بلاهة في حياتك ، قبل أن تودع هذا العالم !
كان أبي يتحدث عن المحامين ، وعن المحاكم ، لكن لم يكن أحد منا على يقين بأننا سوف نكسب القضية. وداعا متجر الخردوات ، وداعا المحلبة ؛ وداعا الثراء الذي طالما حلمنا به ! لقد أخلط جدي جميع الأوراق ! لقد أوصى بكل أملاكه لولده البالغ من العمر سنة ونصف ، والذي أنجبه من امرأة شابة كان قد تزوجها خلال مقامه بالبادية . لقد كان مجبرا ، حسب ما قيل لأبي في الدوار على ألا يفشي سر هذا الزواج لأي أحد منا !
هاهو أبي يتخذ القرار بأن يرفع دعوى إلى المحكمة بهذا الشأن. إنه يقول " ماضاع حق وراءه مطالب " . قال له أخي الأكبر بأن الوصية قد تمت ، وهي الآن سارية المفعول ، ولم يبق لنا الحق في أي شيء ، فرد أبي يقول بأن هناك سر لايعرفه أحد ، وهو الذي سيفند كل شيء ويخطأه بالحجة والدليل.
لم تأخذ القضية أكثر من ثلاثة أشهر لنرى حقوقنا كاملة تعود إلينا . يالعدالة السماء ! لقد قال أحد المفكرين بأن " الفقر يريد الكثير ، لكن الجشع يريد كل شيء ! " ، وهذه هي قصة هذه المرأة التي كانت تمني النفس بالإستحواذ على كل ممتلكات جدي . لقد كانت متزوجة وحامل في الشهر الأول ، ولما علمت بأن جدي سيقيم دائما في البادية ، قامت بفعل كل شيء من أجل أن تتزوج به ، بعدما أوحت إلى زوجها أن يطلقها ويعلم الكل بفراقهما ليراجعها من بعد ، لكن بعد أن يكونا قد استوليا قانونيا على كل شيء عن طريق مولودهما الذي سيصبح الوارث الشرعي والوحيد لجدي . لقد فكرت هذه المرأة في كل شيء ، بعد أن أوقعت جدي في شراكها وأصبح يؤمن بكل ماتمليه عليه ، لكن هناك حقيقة كانت غائبة عنها ، والتي لم نكن نعرفها نحن الأبناء كذلك ، ألا وهي أن جدي ( كما كان يعلم سكان الدوار ) كان رجلا عقيما - نعم ، عقيما ! - وأن أبي وعمتي لم يكونا أبناءه من صلبه ، بل أبناءه فقط بالتبني.
لقد شهد كل سكان الدوار إذن بهذا ، نزولا عند رغبة أبي وعمتي ، فظهرت الحقيقة جليا ، هذه الحقيقة التي لم تكن تعرفها هذه المرأة وزوجها لأنهما لم يكونا من سكان الدوار الأصليين ، مما جعل القاضي يودعهما السجن لعدة سنوات بتهمة النصب والإحتيال.

مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
الدار البيضاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سؤال. والصمت الجواب ... كلمات .. عبدالفتاح غريب

  سؤال. والصمت الجواب من أضناه بعد طول الصبر الحنين ومضى على درب ذكرى ولت بمحراب الوتين دام بحلم باللقاء يناجي نجم طيف بالرجاء حجب عن حناي...