الثلاثاء، 12 ديسمبر 2017

حرام . . والله حرام ياأبي ! بقلم الأديب ..مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية. الدار البيضاء

أعزائي القراء سلام الله عليكم !
أتمنى أن تنال هذه القصة رضاكم كسابقاتها.

حرام . . والله حرام ياأبي !

كان أبي يعمل كسائق أجرة ، وكانت أخطاؤه لاتعد ولا تحصى. كان من بين أخطائه ما يشفع له فيها جهله ، ويمكن للناس أن يغفروها له ، لكن كانت هناك أخطاء لا يمكن أن تغتفر ، لأن نتائجها ظلت معنا وعاشت فينا وأثرت على نفسيتنا ، ألا وهي الأخطاء التربوية . كان يسخر دائما من أمي فينعتها بالسادجة ويمني النفس بأن يطلقها يوما ليأتي بأحسن منها ، أما عني أنا فكان يقول بأني أشبه أمي في سداجتها ، والتي ورثتها حسب رأيه عن أمها. وكان يقول بأن أخي ذي العشر سنين ، والذي يصغرني بعامين أذكى مني بكثير ، بحيث كان يشبهه هو في ذكائه وقدرته على حل المشاكل ، إلى آخره. وياليته كان يقف عند هذا الحد ! كان يعز أخي أكثر مني ويفضله علي تفضيلا. كان يقبله كلما عاد إلى المنزل ، أما أنا ، ذلك الولد السادج حسب رأيه ، فلم يكن يعيرني أي اهتمام ، ولم أذكر يوما أنه قبلني بحرارة أو ضمني إلى صدره كما كان يفعل مع أخي . كان لهذا السلوك تأثير عميق على نفسيتي ، مما جعلني أفشل في دراستي، بل في كل شيء !
لقد بدأت مشاكلي النفسية تظهر للوجود بدخولي سن المراهقة ، حيث اختلط علي كل شيء ، وبدأ طريقي نحو الفشل الدراسي يرتسم أمام عيني ؛ فأنا لم أتجاوز عتبة السلك الأول ، أنا الذي كنت تلميذا نجيبا ، عندما كنت في المدرسة الإبتدائية . وأنا في السنة الأولى إعدادي ، أدركت أنني أصبحت غير قادر على التركيز ؛ أصبح انتباهي مشتتا ، وأصبحت عاجزا على فهم وتحصيل ما أدرسه داخل القسم ! كم مرة كنت أجد نفسي أنظر إلى الأستاذ وهو يشرح الدرس ، لكن عقلي يكون مع أبي ! مرة أراه يفتح دراعيه ليضم أخي إليه ويقبله بحرارة ؛ مرة أراه يأخذه من يده ، وقد تجاهل وجودي أنا ليصطحبه في سيارته من أجل جولة في المدينة ؛ مرة كنت أفاجأ به، وقد عاد متأخرا بالليل ليوقضه وقد خفت صوته ويناوله قطعة من الحلوى ، أو من الشكولاطة الباهضة الثمن. هل هذا من العدل في شيء ياأبتي ؟ لاأخفيكم القول ، أصبح إحساسي بالظلم يزيد يوما بعد يوم ، فتولدت لدي رغبة غريبة ومخيفة ، ألا هي رغبة الإنتقام من أبي ؛ رغبة كانت نارها تتأجج بداخلي كلما نظرت إلى أخي الذي مايزال ينعم بحب أبي وتفضيله له علي وقد أصبحنا كبارا. أكثر من هذا ، أنا الذي كنت أحب جدا أخي ونحن أطفال صغار ، أصبحت أكن له هو الآخر ، ودون وعي مني نوعا من الكره ، والذي كان ينمو ويتطور مع مرور الأيام ؛ كان هذا الإحساس يعذبني ويسبب لي ألما كببرا ، لكن لم يكن في وسعي فعل أي شيء للتخلص منه. أما الأخطر فهو أنني أصبحت مع توالي الأيام أكره كل الأطفال الذين يتمتعون بحب آبائهم ، في الحي الذي نقطن به ، والذين يعيشون على قدم المساواة مع إخوانهم من طرف آباء واعين بمفهوم تربية الأطفال ؛ أصبحت أحس أن كرهي لهم في طريقه ليصبح شيئا مشروعا ، ككرهي لأبي أو أخي ! إحساس غريب وغير معقول، لكنه وللأسف موجود بداخلي ! لقد أصبحت أعيش اضطرابات نفسية حادة وغير مسبقة ، وارتفعت درجة حبي للإنتقام من أبي ، وكذا من أخي ، وأيضا من كل من هو محبوب لدى والديه من أبناء حينا ، وأصبحت شراستي تعادل شراسة حيوان مفترس لايعرف للرحمة معنى ، فوجدتني يوما ، وبدون أي شعور - نعم بدون أي شعور ! - أشبع أحد الأطفال ضربا ، وأكسر ظلما بعض أسنانه ، مما تسبب في حبسي لمدة ستة أشهر بالسجن المدني .
زارني أبي مرة واحدة وأنا في السجن ، ليس حبا في ، ولكن ليقول لي ، وباختصار شديد " عندما تغادر السجن لا تعد إلى البيت. أنا لاأحبك. "
تنهدت بعمق وقد اغرورقت عيناي دموعا ، لكن أبي لم يكثرت لهذا وانصرف وهو لايبالي. قلت في نفسي " أكيد ، سيكون العيش في الشارع ، مع أبناء الشوارع أرحم بكثير من العيش مع أب لايحبني ولا يعير وجودي أي اهتمام ! "
وتمضي الأيام والشهور . . لكم أن تتخيلوا ماشءتم عن حياتي في الشارع : ماذا آكل ، ماذا أشرب ، أين أنام ، إلى آخر ماهنالك ، لكن لايمكنكم أن تتخيلوا مدى الشوق والحنين الذين كنت أشعر بهما كلما تذكرت أمي ؛ فهي الشخص الوحيد الذي كنت أحبه في حياتي ، والذي كان يبادلني نفس الإحساس. بعد قضاء أكثر من ثلاثة أشهر في الشارع ، هاأنذا أفكر أن أعود إلى البيت يوما ، فقط من أجلها ! وعدت مساء أحد الأيام ! طرقت الباب ، فسمعت صوت أبي يقول : من ؟ من بالباب ؟ لم أجب. بعد لحظة ، فتح الباب. كان أبي من فتح. قال لي : ماذا تريد ؟ لم أجب وطأطأت رأسي ، فقال لي : اذهب إلى حال سبيلك ولا تعد هنا مرة أخرى.لقد سبق وقلت لك إني لا أحبك. هل نسيت ؟
انصرفت على الفور ، وفي هدوء تام ، دون أن أقول أي شيء. كانت الدموع تنهمر بغزارة من عيني ، وكنت أحس بأن قلبي سينفجر من شدة الغيض.

بعد أقل من عشر دقائق ، سمعت أحدا يناديني باسمي ، كان صوت امرأة : إنها أمي ! كانت تهرول في مشيتها وهي تجفف دموعها بكفي يديها. هاهي ابتسامتها الجميلة تملأ الآن المكان. لم تعد تفصلني عنها سوى سنتيمترات . . أنا الآن في حضنها. ضمتني إلى صدرها وأنا أجهش بالبكاء. اختلطت دموعنا. قبلتني مرة وأخرى وثالثة . . الله ! أحسست أن الدنيا كلها أصبحت ملكي ، وأن الأمل في الحياة قد عاد إلي من جديد ! مشهد رائع ، لكنه سينتهي للأسف في نفس الثانية بحلول أبي في المكان. لم يقل شيئا ، لكن نظرته الشرسة كانت توحي بما لاتحمد عقباه.
عادت أمي إلى البيت وهي ترتجف من شدة الخوف من أبي ، فلربما كان ماأقدمت عليه سببا كافيا ليطلقها ، وعدت أنا من حيث أتيت وقد أدمى الفراق قلبي ، فلربما كانت هذه هي المرة الأخيرة التي أرى فيها أمي. أما عن فكرة الإنتقام من ابي ، فلقد تلاشت تماما أمام هذا الوضع الجديد الذي أتخبط فيه. أنا الآن بحاجة للبحث عن لقمة العيش لكي لاأموت جوعا ، وعن مكان آوي إليه ليقيني من شدة البرد القارس.

مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
الدار البيضاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سؤال. والصمت الجواب ... كلمات .. عبدالفتاح غريب

  سؤال. والصمت الجواب من أضناه بعد طول الصبر الحنين ومضى على درب ذكرى ولت بمحراب الوتين دام بحلم باللقاء يناجي نجم طيف بالرجاء حجب عن حناي...