الأحد، 9 فبراير 2025

( مقال ) عن الشاعر العراقى .. معروف الرصافي .. إعداد وتقديم بقلم .. مجدي مختار

 قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏تحتوي على النص '‏syr-r syr-res.com مبادرة "الباحثون السوريون" "الباحثونالسوريوة" معروف الرصافي ابنوا المدَّارسَ واستَقضُوا بها الأمَلا حتّى تطاولَ في بُنيانها زحلا‏'‏‏

كان الشَّاعر العراقي (معروف الرَّصافي) جالسًا في دكان صديقه، الكائن أمام جامع الحيدر ببغداد.
وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث، وإذا بإمرأة محجَّبة يوحي منظرها العام بأنَّها فقيرة، وكانت تحمل صحنًا، وطلبت بالاشارة من صاحبه أن يعطيها بضعة قروش كثمن لهذا الصَّحن.
ولكنَّ صاحب الدكان خرج إليها وحدَّثها همسًا، فانصرفت المرأة الفقيرة.
فاستفسر الرَّصافي من صديقه عن هذه المرأة، فقال له صاحبه:
إنَّها أرملة تربِّي يتامى، وهم الآن جياع، وتريد أن ترهن الصَّحن بأربعة قروش؛ كي تشتري لهما الخبز.
فما كان من الرَّصافي إلا أن يلحق بها، ويعطيها اثني عشر قرشًا، كان هذا المبلغ كلَّ ما يملكه الرَّصافي في جيبه، فأخذت السَّيِّدة الأرملة القروش، وهي في حالة تردُّد وحياء، وسلَّمت الصَّحن للرَّصافي، وهي تقول له: الله يرضى عليك، تفضَّل وخذ الصَّحن.
فرفض الرَّصافي، وغادرها عائدًا الى دكان صديقه، وقلبه يعتصر من الألم ...
عاد الرَّصافي إلى بيته، ولم يستطع النَّوم ليلتها، وراح يكتب هذه القصيدة، والدموع تنهمر من عينيه.
"قصيدة الأرملة المرضعة" كتبت بدموع عيني الرَّصافي، فجاء التعبير عن المأساة تجسيدًا صادقًا لدقِّة ورِقَّة التعبير عن مشكلة اجتماعيَّة (الفقر والفقراء).
وتُعَدُّ هذه القصيدة من روائع الشِّعر العربي في عصر النَّهضة.
بل إنَّ من روعتها ترجمت الى اللغة الفرنسيَّة والإنجليزيَّة؛ لتعدُّد الصُّور الوصفيَّة المؤثِّرة في نفوس النُّبلاء:
لقيتها ليتني ما كنتُ ألقاها!
تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها
أَثوابُها رثَّةٌ والرِّجْلُ حافيةٌ
والدَّمع تذْرفه في الخدِّ عيناها
بكت من الفقر فاحمرَّت مدامعها
واصفرَّ كالوَرْس من جوعٍ مُحياها (١)
مات الذي كان يحميها ويسعدها
فالدَّهر من بعده بالفقر أشقاها
الموت أفجعها والفقر أوجعها
والهمُّ أنحلها والغمُّ أضناها
فمنظر الحزن مشهود بمنظرها
والبؤس مرآهُ مقرونٌ بمرآها
كرُّ الجديدين قد أبلى عباءَتها
فانشقَّ أسفلها وانشقَّ أعلاها
ومزَّق الدَّهرُ - ويلُ الدَّهرِ - مِئزرها
حتى بدا من شقوق الثَّوبِ جَنباها
تمشي بأطمارها والبرد يَلسعها
كأنَّه عقربٌ شالت زُباناها (٢)
حتَّى غدا جسمُها بالبردِ مرتجفًا
كالغُصن في الرِّيح واصطكَّت ثناياها
تمشي وتحمل باليُسْرى وليدَتها
حَمْلًا على الصَّدْر مدعومًا بيُمناها
قد قمَّطتها بأهدام ممزَّقةٍ
في العين منشرها سَمج ومَطواها
ما أنسَى لا أنسَى أني كنتُ أسمعها
تشكو إلى ربِّها أوصابَ دنياها
تقول: يا ربُّ لا تترك بِلا لبنٍ
هذي الرَّضيعة وارحمني وإيَّاها
ما تصنع الأم في تربيب طفلتها
إنْ مسَّها الضُّرُّ حتى جفَّ ثدياها (٣)
يا ربُّ ما حيلتي فيها وقد ذبلت
كزهرة الرَّوض فَقْدُ الغيث أظماها
ما بالها وهْي طول الليل باكيةٌ
والأمُّ ساهرة تبكي لمبكاها
يكاد ينقدُّ قلبي حين أنظرها
تبكي وتفتح لي من جوعها فاها
ويلُمِّها طفلةً باتت مروَّعة
وبتُّ من حولها في الليل أرعاها! (٤)
تبكي لتشكوَ من داءٍ ألمَّ بها
ولستُ أفهم منها كُنهَ شكواها
قد فاتها النُّطق كالعجماء أرحمها
ولستُ أعلم أي السُّقم آذاها
وَيح ابنتي إنَّ ريبَ الدَّهر روَّعها
بالفقر واليتم، آهًا منهما آها!
كانت مصيبتها بالفقر واحدةً
وموت والدها باليُتم ثنَّاها
هذا الذي في طريقي كنتُ أسمعه
منها فأثَّر في نفسي وأشجاها
حتى دنوتُ إليه وهي ماشيةٌ
وأدمعي أوسعت في الخدِّ مجراها
وقلتُ: يا أُختُ مهلًا إنَّني رجلٌ
أشارك النَّاس طُرًّا في بلاياها
سمعتُ يا أُختُ شكوى تهمسين بها
في قالةٍ أوجعت قلبي بفحواها
هل تسمح الأختُ لي أنِّي أشاطرها
ما في يدي الآن أسترضي به الله
ثمَّ اجتذبتُ لها من جيب ملحفتي
دراهمَ كنتُ أستبقي بقاياها (٥)
وقلتُ: يا أُختُ أرجو منكِ تكْرمتي
بأخذها دونما مَنٍّ تغشَّاها
فأرسلتْ نظرة رعشاء راجفة
ترمي السِّهام وقلبي من رماياها
وأخرجَتْ زفَراتٍ من جوانحها
كالنَّار تصعد من أعماق أحشاها
وأجهشت ثمَّ قالت وهي باكية:
واهًا لمثلك من ذي رقَّة واها!
لو عَمَّ في النَّاس حِسٌّ مثل حسِّك لي
ما تاه في فَلَوات الفقر مَن تاها
أو كان في النَّاس إنصافٌ ومرحمة
لم تشكُ أرملة ضَنكًا بدنياها
هذي حكاية حالٍ جئتُ أذكرها
وليس يخفى على الأحرار مَغزاها
أَولى الأنام بعطف النَّاس أرملةٌ
وأشرف النَّاس مَن في المال واساها
-----
١- الورس: نبت أصفر يصبغ به.
٢- شالت: ارتفعت. والزبانة: الذنب.
٣- تربيب: تربية.
٤- ويلُمِّها: أصله ويل لأمها.
٥- ملحفتي: الرِّداء الذي أرتدي به فوق ملابسي.
دمتم بكلِّ خير وصحَّة وسعادة وراحة بال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سؤال. والصمت الجواب ... كلمات .. عبدالفتاح غريب

  سؤال. والصمت الجواب من أضناه بعد طول الصبر الحنين ومضى على درب ذكرى ولت بمحراب الوتين دام بحلم باللقاء يناجي نجم طيف بالرجاء حجب عن حناي...