الكهنوت....
وفن صناعة نصف إله
بقلم ... - صبحي حجاب
فن صناعة الكهنوت ليست متقصرة علي صناعة رجل دين فحسب .. له الهيبة والطاعة والتصديق برؤيته دون تفكير ... والنقل عنه دون تعقل ... وحضور جلسات الوعظ .. بل والتبرك به ... ولكن قد تطرق الأمر لأفاق أرحب من ذلك لتشمل كهنوت الفكر والطب والدجالين والافاقين والعارفين والمشعوذين وبعض رجال من اهل الاعلام والسياسة أيضا ,... وكهنوت الحكمة من رجال العرف فالقضاء العرفي ... وكبير القوم ككهنوت يطاع وكلامه حكمه ورؤيته صائبة ... ووجوب التعبية لما يراه ..., وهو من يعفو ويقرر عوض ثمن الخطأ الذي سيدفعه المخطئ ... وهو من يعطي صكوك الفغران لمن أخطأ بعد دفع قيمة الخطأ الذي يقدره ... وهو نهج يتبناه فقراء العلم والثقافة واغنيائهم ايضا وبعد مذاهب السلفيين ..
باختصار، اخترع المسلمون "كهنوتا شعبيا" من رجال الدين والموروثات القديمة التي ليس فيها من صحيح الإسلام إلا القليل ... فخلقوا حالة عامة كالتي عاش فيها الأوروبيون المسيحيون في القرون الوسطي تماما ... وكان رجال الكهنوت في تلك العصور يتمتعون بالسطوة والقوة ... ويغرفون الأموال من البسطاء والأغنياء باسم السماء ... ومن أجل الحفاظ على تعاليمها ضد العقول الجديدة والأفكار الجديدة التي تريد أن تخرب المسيحية وتفسد روحها .. والمسلمون يعيشون نفس الحالة الآن، باسم الصحوة الإسلامية ..
وقبل أن يتصور أحد أنني أدعو إلى هجر الدين وتركه إلى علوم العصر ... فهذا ليس مقصدا ولا يمكن أن ننادي به ... فالحياة دون تدين فيها كثير من القبح والشر ... لكن ثمة فارقا بين التدين والتديين ... التدين عقل والتديين انفعال ... التدين وعي .. والتديين عماء .. التدين جوهر وعمل وسلوك ... والتديين شكل ومظاهر وطقوس فارغة من معانيها الراشدة ..
وشيوع التديين سببه "الكهنوت الشعبي".. بينما الإسلام دعوة لاستخدام العقل ... وتحريض على التفكير العلمي المنظم ... وتمرد على الكهنوت ... فالرسالة موجهة من الله عبر رسوله الكريم لكل البشر أجمعين .... ولم يخص بها العلماء ورجال الدين باعتبارهم الأكثر علما ومعرفة لينقلوها إلى الناس ... فالبشر سواسية أمام الله .... العالم والجاهل ... والجاهل مسؤول عن جهله ... وليس عما يقال له من دعاة الفضائيات وبعض أئمة المساجد أو سماسرة الفتاوى .. فالمسؤولية في الإسلام فردية تماما ... وكل امرئ معه كتابه بيمينه .. وليس شيخه ولا مفتيه ولا داعيته ...
ليس مفاجئاً أنّ المجتمعات التي تعيش عقدة تخلّف عن ركب العصر ... تأنس بمعالجة عقدتها عبر سلوك تعويضي يبالغ في العناية بالرموز عبر الزهو الدعائي بأدمغتها أو بمن تراهم كذلك ... فتباشر إثقال بعضهم بتيجان الاقتدار على نحو يفيض بالمبالغات غير المُنتجة علمياً في نهاية المطاف .... وهكذا يستدرج المجتمعُ نخبَه العلمية والفكرية إلى حالة انتفاخ تقع النخب ذاتها ضحية لها في نهاية المطاف .... وعندما يُبالِغ بعض المحسوبين على العلم والوعظ والخطابة في افتعال وقار زائد ي... متنعون معه عن التفاعل الإنساني الملائم للمواقف المتعددة ... فإنهم في هذا يخالفون طبيعة البشر ونهج الأنبياء ..
ومن أعراض الحالة الكهنوتية الحديثة .. أن يصبح الحصول على درجة الدكتوراة مثلا كناية عن نهاية مطاف علمي ... بدلا أن يغدو بذاته نقطة الانطلاق العلمي والبحثي بصفة مستقلة... فيستسهل أحدهم .... من هذه الفئة المتثاقلة بألقابها ... الالتصاقَ بمقعد مريح في مكتب مكيّف ... مستنكفاً عن مواصلة مسيرة تبيّن أنها سعت إلى الدرجة العلمية دون أن تعبأ بالعلم المجرد على ما يبدو .... إنها البيئة الملائمة تماماً لمصانع الشهادات التي تمتد فيها صفوف الخريجين ... دون أن ينعكس ذلك المنحى الكمي بوضوح على جودة المنسوب العلمي والثقافي في البيئة ذاتها ..
يتورّط "الإعلام الوطني" في تعزيز هذا المنحى عبر النفخ في "علماء الوطن" واستعمالهم دعائياً بطريقة قد لا تتناسب مع جداراتهم المجردة ..... ومن يقع تقديمهم في هذا الإعلام هم غالباً من انصاعوا للواقع وأذعنوا له .... فاختارت السلطة إبرازهم والنفخ فيهم وتقديمهم في هيئة إنجاز لها وأسوة للاقتداء .... فيصبح أحدهم مادة لأبواق الدعاية والهيمنة على وعي مجتمعه ... وإن حاز جائزة نوبل ..
يتجلى شيء من هذا على مستوى مصغر .... عندما تحرص القبائل والعشائر والقرى والبلدات على التباهي بأبنائها من حاملي الشهادات والدرجات .... إلى درجة قد تقتل علومهم وتفتك بمعارفهم تحت وطأة الإفراط في النفخ والتباهي ..... يُدرك حاملوا الدرجات حظوتهم الجديدة في مجتمعهم فينزلقون إلى المبالغة في استعمالها طلباً لمكاسبها الاجتماعية ورونقها الإعلامي ... بصفة قد ترتدّ عكسياً على الروح العلمية ذاتها التي تقتضي التواضع في طلب العلم المستمر ... وتحصيل المعارف دون إشارة توقف مهما تزاحمت الشهادات على الجدران ودروع التقدير في الخزائن ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق