السبت، 15 سبتمبر 2018

/ الموعد / بقلم الأديب الأستاذ .. مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية. الدار البيضاء.

* إخواني القراء الأعزاء سلام الله عليكم !
أتمنى أن تنال هذه القصة رضاكم وتلقى تشجيعاتكم.

/ الموعد /
كان رجلا مليح الوجه، قوي البنية، طويل القامة ؛ كان عمره يناهز الواحد والخمسين سنة ، لكن مظهره كان يوحي بأنه لم يتجاوز بعد الأربعين . كان غنيا جدا ؛ كان يسكن وحده في " فيلا " فخمة ، وكان يقتني على رأس كل سنة سيارة جديدة . وأي سيارة !
لم يكن متزوجا ولم يكن له أبناء ، كما أنه لم يكن متدينا ، لأن الطقوس الدينية ستفسد عليه حياته ، كما كان يعتقد ، كونها ستقف حاجزا بينه وبين ملذات الحياة التي ألف العيش فيها منذ زمن بعيد ، والتي لايستطيع التخلي عنها ولو بملء الأرض ذهبا ! فالخمر والجنس كانا هما القطبين الرئيسيين الذين تنبني عليهما كل حياته ؛ كانت لياليه كلها حمراء ! أضف إلى ذلك أنه كان يتناول بين الفينة والأخرى جرعة من الكوكايين أو الهيروين .
لم يكن لديه عمل ، لأنه لم يكن بحاجة إلى العمل! فالأموال الطائلة التي ورثها عن أبويه المتوفيين في حادثة سير ، والتي تقدر بملايير السنتيمات تجعله يعيش أكثر من مائة عام ، حتى ولو أنفق مايقدر بمليون سنتيم يوميا !
ذات يوم ، اتصلت به إحدى الفتيات ، والتي كان يعرفها جيدا ويكن لها محبة خاصة في قلبه وطلبت منه أن ينتظرها في منزله ؛ فلديها شيء مهم تريد أن تقدمه له . لم يكن هو آنذاك هناك ، فضرب لها موعدا بإحدى المقاهي بحي " المعاريف " ، قرب " توين سنتر " .
والتقيا ؛ كانت الساعة تشير إلى الرابعةبعد الزوال.
بعد تناول القهوة وتدخين بعض السجائر معا ، قال لها " إذن ، عندك شيء مهم تريدين أن تقدميه لي ؛ فما هو ؟ "
نظرت إليه الفتاة بعمق ، بعدها أطفأت سيجارتها ، ثم تناولت أخرى وهي تقول :
- عندي لك بضاعة ، كما تسميها أنت !
- فتاة ؟
- وليست أي فتاة ! لم تر ، وأظن أنك لن ترى أجمل منها في حياتك !
- أجمل منك أنت ؟
- لا مجال للمقارنة بيننا !
- ماذا ؟! وأين هي ؟ ولم لم تأت معك ؟
- سوف آتيك بها في الغد ، لكن يجب أن تعلم بأن هذه الفتاة ليست كاللواتي عاشرتهن من قبل! فهي، أولا وقبل كل شيء فتاة محجبة ..
- محجبة ، وأين هو المشكل ؟ كم من فتاة أتت إلى الفيلا ، وما إن دخلت حتى نزعت حجابها ، وأشعلت سيجارة، ثم تناولت كأس ويسكي، وهذا قبل أن تجلس !
- هذا صحيح ، لكن هذه فتاة من نوع آخر ؛ أعني من نوع لم تصادفه من قبل في حياتك !
لم يضف الرجل شيئا ، وبعد ما يقرب من دقيقة، رفع رأسه ، ثم نادى على النادل وطلب منه أن يأتيه بفنجان آخر من القهوة ؛ بعدها أشعل سيجارة وهو يقول :
- أصدقيني القول ياوردة ! هل هناك سر من الأسرار وراء هذه الفتاة؟
- لم تقول هذا؟
- لم ؟ لقد أتيتيني بعشرات الفتيات قبل هذا ، ولم تكلميني ولو مرة واحدة عن جمال أي فتاة منهن كما تفعلين الآن ، مع العلم أنهن كن كلهن فاتنات !
- أنت رجل ذكي ، يا نبيل ! بالفعل هناك سر وراء هاته الفتاة ، لكن الوقت لايتسع لإخبارك الآن ! سآتي عندك في المساء إلى البيت ، إن لم يكن لديك مانع وسنقضي الليل سويا ، عندها سأطلعك على كل شيء !
- وهو كذلك !
بعد دخول صلاة العشاء ، كان ذلك حوالي الساعة الثامنة مساء، كانت وردة توجد أمام الفيلا وهي تتحدث بالهاتف الداخلي إلى السيد نبيل الذي فتح لها الباب لتدخل .
ناولها كأسا من الويسكي ، بعد أن قبلها على وجنتيها ، ثم دعاها لتتفضل بالجلوس إلى جانبه. لم تقل شيئا حول الموضوع الذي أتت من أجله ، ولم يسألها الرجل بدوره عن أي شيء . كانت تشرب الكأس تلو الكأس ، وتدخن السيجارة تلو السيجارة ، وهي تغني تارة وترقص أخرى. . كانت ضحكاتها تسمع في كل أرجاء الفيلا .
لم تمر نصف ساعة حتى كانت وردة قد سكرت حتى العربدة . قامت من مكانها وتوجهت من تلقاء نفسها نحو غرفة النوم ، فبدأت بخلع ملابسها وهي تتفوه بكلمات قذرة ، ثم أجهشت بعد ذلك بالبكاء وهي تقول : أتذكر يانبيل عندما جئت هنا لأول مرة ؟ أتذكر كم كان عمري ؟ كنت في السابعة عشرة ، وأنا الآن في الرابعة والعشرين ! مرت سبع سنين لم أفضل فيها رجلا عليك ! فأنت الذي سلمتك نفسي، وتركت كل شيء من أجلك ! أنت من فض بكرتي فوق هذا السرير، وأنت من اقتادني إلى الطبيب مرتين من أجل إجهاض طفلين كنت قد حملت بهما منك . .
قاطعها الرجل بلطف وهو يقول " ماالداعي إلى هذا الكلام الآن ياوردة ؟ " ، ثم أشعل سيجارة وناولها إياها ؛ بعد ذلك وضع يده على كتفها وهو يحاول أن يهدأ من روعها ؛ كانت تدرف الدموع في صمت وهي تدخن . اقترب منها وهمس في أذنها : قومي واغسلي وجهك ، سوف نخرج ؛ سنتناول العشاء الليلة في فندق " حياة ربجينسي ! "
ابتسمت من طرف شفتيها ، لكنها لم تنبس بكلمة .
كانت وردة هي الفتاة المدللة عند نبيل ، والمفضلة . . كانت روحه فيها كما يقال ! كان يعطيها بسخاء ، الشيء الذي لم يكن يفعله مع أي فتاة أخرى ! جاءته مرة تبكي بمرارة ، كان ذلك قبل خمس سنين ، فلم يتردد في حل المشكل الذي جعلها تدرف كل هذه الدموع ، وأعطاها مبلغ أربعة ملايين سنتيم ، ثمن العملية التي ستنقد أمها من الموت.

بعد تناول العشاء ، طلبا قهوة وهما يشعلان سيجارتيهما ؛ كانت وردة قد استعادت هدوءها ، لكن البسمة ماتزال غائبة عن شفتيها . قال لها نبيل :
- ماإسم صديقتك التي كنت قد حدثيني عنها ؟
- إسمها غزلان .
- غزلان !
- نعم ، غزلان . إسم على مسمى ، كما يقال !
- وما هو السر الذي وراءها ؟
طأطأت وردة رأسها ، وبعد برهة رفعتها وهي تقول : اسمعني جيدا من فضلك ، ولا تقاطعني ! ماوراء هذه الفتاة ليس سرا بالمعنى العميق للكلمة ، بل حقيقة أريد أن تعلمها ! هذه الفتاة أساءت إلي كثيرا ! إنها تسكن بنفس الحي الذي أسكن فيه. إني أعتبرها كصديقة ، لكنها أساءت كثيرا إلى سمعتي بين الناس ! قالت بأني عاهرة وابنة عاهرة ، وإني أتسكع بين الشوارع والمقاهي ، أتحين الفرص للإيقاع بالرجال المتزوجبن ، فأسلبهم مالهم وزوجاتهم ، إلى ماغير ذلك ؛ أفهمت ؟ والآن ، لي عندك طلب !
- طلب ، وما هو ؟
- هو أن تنتقم لي من هذه الفتاة !
- أنتقم لك منها ، كيف ؟
- سأقول لك كيف !

كانت وردة تشرح خطتها بتحسر ، وهي تدخن سيجارتها ، وما هي إلا دقائق حتى استوعب نبيل كل شيء ووافقها على طلبها وهو يقول : أنا معك بأن هذه فتاة لءيمة وتستحق كل أنواع العقاب ، لأنها لم تصن عهد الصداقة القائمة بينكما ، وأن ذلك الحجاب الذي ترتديه ماهو إلا قناع تخفي وراءه نفسا شريرة !
مسكينة يا غزلان ، الله معك ! كل ماقالته عنها صديقتها وردة لم يكن يمت إلى الحقيقة بصلة ! كل مافي الأمر هو أن وردة كانت تحسد غزلان على دماثة خلقها ورقتها ، وما يقول الناس عنها في الحي ، والحب الذي يكنون لها ! وهاهي الآن تدبر لها مكيدة وتطلب من هذا الشخص الذي يجهل حقيقة الأمور أن ينتقم لها منها ؛ فهي تتمنى من أعماق قلبها أن تصبح أعز صديقاتها مثلها ، تتاجر هي الأخرى بجسدها. إنها مستعدة لفعل أي شيء من أجل هذا !
هذا شيء ليس غريبا على وردة ! لقد قامت بنفس الدور فيما مضى مع فتيات أخريات من بنات حيها ، إذ اقتادتهن، على غفلة منهن إلى وكر الدعارة، عند نبيل ؛ فأغراهن المال ، وهن الفقيرات ، ولم يفطن لخطتها ؛ وكيف ، وهي التي كانت تقول، وهي تتظاهر بالصدق أن كل مايهمها هو مصلحتهن، وأن الإختيار هو اختيارهن !
في صباح الغد ، استيقضت وردة باكرا ؛ وبعد أن استحمت وتناولت فطورها ، غادرت الفيلا وهي تعد نبيل بأن تعود له في المساء ، ومعها الصيد الثمين ! ناولها نبيل بعض النقود وطلب منها ألا تتركه ينتظر طويلا ، فهو متلهف للقاء تلك الفتاة ، ولتطبيق الخطة المتفق عليها !
إيه يادنيا ! كم أنت مليئة بالمفاجآت ! السارة منها والضارة !
لو كان نبيل مايزال على قيد الحياة ، لعلم أن وردة قد فارقت هذه الحياة بعد بضع ساعات من توديعه ، وذلك بعد أن صدمتها سيارة ، في الوقت الذي كانت تعود فيه من بيت صديقتها غزلان ! كانت قد أخبرتها أنها سترافقها في المساء من أجل حضور حفل زفاف صديقة مشتركة لهما لم يرينها منذ زمن بعيد، والتي ستكون بانتظارهما على أحر من الجمر ، هي وعائلتها ! كانت فرحة غزلان لاتوصف ، هي المسكينة التي لاتعلم أي شيء عن المكيدة التي تحاك ضدها.
ولو كانت وردة ماتزال تنعم بالحياة، لعلمت أن نبيل قد مات في مساء نفس اليوم بعد تناوله جرعة مفرطة من الهيروين ؛ مات وهو ينتظر قدوم الفتاة التي أعد العدة للفتك بها ، بعد أن سيكون قد جردها من ملابسها ، كما اتفقا ، وردة وهو على ذلك ، وربطها على السرير ليفعل بها مايريد !
أما عن غزلان ، فلقد أفجعها المسكينة نبأ موت صديقتها وردة، فسقطت على التو من طولها وأغمي عليها. كانت الصدمة قوية على نفسيتها لدرجة أنها فقدت معها القدرة على النطق ، وهي الآن توجد بإحدى المصحات المتخصصة ، تحت رعاية طبية مكثفة.

مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
الدار البيضاء.
١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سؤال. والصمت الجواب ... كلمات .. عبدالفتاح غريب

  سؤال. والصمت الجواب من أضناه بعد طول الصبر الحنين ومضى على درب ذكرى ولت بمحراب الوتين دام بحلم باللقاء يناجي نجم طيف بالرجاء حجب عن حناي...