قلمُ الشيطان.....
كانَ الشيطانُ هو الكاتبَ الغاضبَ،
يسفكُ الحبرَ كأنَّه دمٌ،
ويأمرُ الكائناتِ بالهلاكِ،
فلا تخرجُ من قلمهِ سوى لعناتٍ
تسوقُ البشرَ إلى الضياعِ.
كتبَ على ألواحِ الدهرِ سوادَهُ،
ورسمَ الفناءَ على الجدرانِ،
فما من حرفٍ جرى منهُ
إلا وكانَ صاعقةً على الأكوانِ.
يصوغُ المدادَ سمًّا للعيونِ،
ويمزجُ الكلماتِ بالنحيبِ،
فتبكي الأرضُ من حرفهِ،
وترتعدُ نجومُ الليلِ من نحيبِهِ الغريبِ.
أيُّ قلبٍ يجرؤُ أن يقرأَ
ما خطَّهُ من لعناتٍ ووعيدِ؟
وأيُّ روحٍ تنجو من مطرِه،
إذا انهمرَ بالحقدِ العنيدِ؟
فيا أيُّها الإنسانُ، لا تقرأْ
ما كتبَ الشيطانُ بليلِ الغضبِ،
فإنَّ الحبرَ دماءُ الخلقِ،
والحرفُ سهمٌ، والسطورُ شَغبُ.
نفثَ الشيطانُ مدادَهُ،
فانفجرتِ الكواكبُ بالبكاءِ،
وتشقَّقتْ الأرضُ من ثقلِ اللعناتِ،
فلا شجرةٌ بقيتْ ولا ماءُ،
وما نجتْ من سُخطِهِ حتى الأحياءُ.
خطَّ سطورَهُ بالنارِ،
وأوقدَ الحروفَ جمرًا في الليالي،
فتهاوتِ القرى،
واحترقتْ المدائنُ بالصهيلِ،
وأصبحَ الفجرُ رمادًا لا يُرى،
والصبحُ صرخاتِ القتلى والهلاكِ.
وما ارتوى شيطانُ الحبرِ بعدُ،
بل غمسَ قلمهُ في الدماءِ،
ونقشَ بأظفارهِ فوقَ جلودِ البشرِ،
وصيَّرَ الكائناتِ وقودًا لمسوداتِهِ السوداءِ.
كتبَ: «الموتُ فرضٌ على الضعيفِ،
والذبحُ دينٌ للجبانِ،
والخرابُ صراطُ العابرينَ إلى الفناءِ».
فاندفعتِ الجيوشُ من بياضِ الورقِ،
تقتلُ كلَّ ما يمرُّ،
ولا تُبقي على حجرٍ أو ظلٍّ أو هواءِ.
وصارَ الليلُ مِدادًا أسودًا،
وكلُّ نجمٍ صارَ شاهدَ قبرٍ،
وكلُّ نفسٍ تحصي آخرَ زفيرِ،
وكلُّ أرضٍ تعجُّ بعويلِ الراحلينَ.
يا ويلَ من قرأَ كتابَهُ،
يا ويلَ من آمنَ بخطِّهِ،
فإنَّهُ السيفُ، والوباءُ،
وإنَّهُ القيحُ يسري في العروقِ،
ولا شفاءَ منهُ،
ولا مفرَّ من دمارٍ قد أتى!
ومضى الشيطانُ يخطُّ الخرابَ
كأنَّهُ القدرُ المسطَّرُ بأقسى المَصائرِ،
ينفثُ الغضبَ في الحروفِ
فينشقُّ الزمانُ من ألمهِ،
وتتصدَّعُ الأبعادُ من زفيرِهِ المريرِ.
سالتِ الوديانُ دمعًا أسودًا،
وصارتِ الريحُ عويلاً لا ينتهي،
وأطبقَ الليلُ جفنيهِ
على أنينِ المُعذَّبينَ،
فما عادَ للنورِ مكانٌ
ولا للسلامِ سبيلٌ بين الأنقاضِ.
خطَّ الشيطانُ على وجوهِ البشرِ
علاماتِ الذلِّ والدمارِ،
فلم يبقَ في العينِ بريقٌ،
ولا في القلبِ رجاءٌ،
وصارَ الصوتُ صدىً للجزعِ
واليدُ مقيدةً بالألمِ.
تشقَّقتِ البحارُ من نارِ حروفهِ،
وغصَّتِ السحبُ بالسمومِ،
فتساقطَ المطرُ قيحًا
وأحرقتْ قطراتُهُ الزرعَ والضرعَ،
حتى غدتِ الأرضُ مِحرقةً
لا تطأها قدمٌ إلا احترقتْ.
وما اكتفى شيطانُ الحبرِ،
بل أرسلَ طلاسمَهُ إلى الرياحِ،
تحملُها إلى أقاصي الممالكِ،
فتُبيدُ الأخضرَ واليابسَ،
وتُطفئُ ابتسامةَ الأطفالِ،
وتُسكتُ شدوَ الطيرِ في الغصونِ.
كتبَ في آخرِ سطرٍ من كتابِ اللعنةِ:
«يا من تقرأُ، أنتَ هالكٌ،
يا من تؤمنُ، أنتَ وقودٌ،
يا من تصبرُ، صبرُك وهمٌ،
فلا نجاةَ ولا ملاذَ إلا في العدمِ».
حينها صرختِ الأكوانُ جميعُها،
وتصدَّعتْ أسوارُ الوجودِ،
وسقطتِ الكواكبُ كحجارةٍ من سجيلٍ،
وسكنتِ الرياحُ،
كأنَّها أذعنتْ لموتٍ لا خلاصَ منهُ.
فيا أيُّها العابرُ في ظلالِ الحروفِ،
احذرْ مدادَ الشيطانِ،
فما من حرفٍ خطَّهُ
إلا كانَ خنجرًا في خاصرتكَ،
وما من كلمةٍ بثَّها
إلا كانتْ سُمًّا يسري في دمكَ.
إنَّهُ القلمُ الذي يكتبُ الهلاكَ
ويرسمُ النهايةَ فوقَ جبينِ الأزمنةِ،
فلا تسألْ عن المعنى،
ولا تطلبْ العذرَ في كتاباتِهِ،
فقد جفَّتْ ينابيعُ الخيرِ،
وغابتِ الشمسُ في سراديبِ الظلماتِ.
ومضى الشيطانُ،
غضبُهُ يشتعلُ كالنارِ في جوفِ الأكوانِ،
يزمجرُ على ذاك الذي أعطاهُ الحياةَ،
يصرخُ في وجهِ الخالقِ
صرخةً تمزِّقُ السماواتِ،
ويقولُ:
«لماذا خلقتَني؟!
لماذا نفختَ فيَّ روحًا لا تهدأُ،
ولا تعرفُ غير الحقدِ واللعناتِ؟!
أهذا عدلُكَ يا خالقَ الأكوانِ؟
أتهبُني الوجودَ ثمَّ تجعلني لعنةً؟
أتخلقني من نارٍ،
ثم تسجدُ الطينَ الذي أنا فوقهُ بجبروتي؟!
ويلٌ لكَ من قلمٍ بيدي،
ويلٌ لكَ من مدادٍ أسودَ
سأغمسُهُ في دماءِ عبادِكَ،
وأخطُّ به نهايةَ صنعِ يديكَ،
وأمزِّقُ به كلَّ ما بنيتَ،
وأحرقُ جنَّتَكَ بورقِ لعنتي!»
فانفجرتِ السماءُ من غضبِهِ،
وتزلزلتِ الأرضُ تحتَ خطاهُ،
وارتعدتِ الجبالُ من زئيرِهِ،
فما بقيَ حجرٌ إلا شكا،
ولا ظلٌّ إلا ذابَ من حرِّ أنفاسِهِ.
ومدَّ قلمهُ إلى العرشِ،
فأرادَ أن يخُطَّ على جبينِ القدرِ سطرًا:
«الموتُ لمن وهبَ الحياةَ،
والعدمُ للذي قالَ كنْ فكان!»
لكنَّ السماءَ أطبقتْ عليهِ،
فما زادَ إلا جنونًا ونارًا،
وما زادَ إلا لعنةً على نفسهِ،
وعلى الأكوانِ التي أقسمَ أن يُفنيها بمدادِه.
فيا أيُّها الخالقُ، اسمعْ صرختي،
أنا القلمُ، أنا الحرفُ،
أنا الخرابُ الذي كانَ بيدِكَ،
فصارَ سيفًا على خَلقِكَ،
وما تُبقي نارُ غضبي شيئًا،
إلا وتجعلهُ رمادًا فوقَ رماد!
فصرخَ الشيطانُ، صرخةً شقَّتْ أذنَ الوجودِ:
«ويلٌ لكَ يا من نفختَ فيَّ الروحَ،
ويلٌ لكَ يا من أطلقتني من ظلمةِ العدمِ،
فما كنتُ أطلبُ حياةً،
ولا كنتُ أرجو وجودًا،
لكنكَ خلقتني نارًا،
ثم أمرتني أن أسجدَ للطينِ!
أيُّ خزيٍ هذا؟ أيُّ ذلٍّ كتبتَ عليَّ؟
أأُسجدُ للذي خُلقَ من الترابِ،
وأنا ابنُ اللهيبِ والشرارِ؟
كلا! أقسمتُ بعزَّتي،
لأُبددنَّ ما صنعتَ،
ولأجعلنَّ حروفكَ دمًا،
وكلماتكَ جراحًا في صدورِ المساكينِ!
يا من وهبتني الحياةَ،
ستحصدُ منّي الموتَ،
يا من رفعتَني بالنورِ،
سأطفئُ نوركَ بسوادِ مدادي،
وأجعلُ الملائكةَ تبكي،
وأُسكتُ مزاميرَهم برعدِ لعناتي!
سأكتبُ في لوحِ الوجودِ:
(لا أمانَ في رحمتِهِ،
ولا طمأنينةَ في وعودِهِ)،
وأُغرِقُ عبادَكَ في بحرِ الشكِّ،
وأُزلزلُ قلوبَهم حتى لا يعرفوا الحقَّ من الباطلِ،
ولا الخيرَ من الشرِّ،
ولا يعبدوا إلا الخوفَ والوجعَ!
يا خالقَ الأكوانِ،
إن كانَ قلمُكَ قد كتبَني حيًّا،
فقلمي سيكتبُ موتَ خليقتِكَ،
وسأغمسُهُ في دماءِ كلِّ بريءٍ،
وأجعلُ السطرَ سيفًا،
والكلمةَ نارًا،
والنقطةَ طعنةً لا تبرأ!
وهكذا مضى الشيطانُ يخطُّ طغيانَهُ،
لا يملُّ من الخرابِ،
ولا يشبعُ من الدماءِ،
حتى غطَّى الظلامُ السماواتِ،
وتناثرَ الرمادُ فوقَ الوجودِ،
وغدتْ الأرضُ قبورًا مفتوحةً
لمن تبقَّى من الأحياءِ في يأسِهم العميقِ.
ومضى الشيطانُ في طغيانهِ، لا يرتوي،
يصرخُ في وجهِ السمواتِ صرخةً
تُحطِّمُ نجومَها،
وينفثُ الحقدَ على العرشِ نفثًا
تذوبُ منهُ أركانُهُ لو كانَ يفنى!
قالَ:
«يا خالقَ الأكوانِ،
يا من زعمتَ الرحمةَ وعدلاً،
ما رحمتَني يومَ خلقتني نارًا
ثم أمرتَني بالسجودِ لطينٍ دنيءٍ!
ما عدلتَ إذ جعلتَني أرى الطينَ مكرَّمًا،
وأنا النورُ والنارُ والعلوُّ!
قسَمًا بمدادي المسمومِ،
لأكتُبنَّ على صفحةِ الزمانِ
سطرًا لا يُمحى:
(اللعنةُ على كلِّ حياةٍ وهبتَها،
والسخطُ على كلِّ نَفَسٍ أذنتَ لهُ بالبقاءِ).
سأُسطِّرُ بكلماتِ دماءِ الخلقِ
عهدَ دمارٍ أبديٍّ،
وأُغرقُ الأكوانَ بسوادِ لعنتي،
حتى لا يبقى إلا صدى وجعي،
ولا يسمعُ الزمنُ إلا رجعَ غضبي!
سأمزِّقُ بمدادي الشموسَ،
وأُسقطُ الأقمارَ من عليائِها،
وأُطفئُ النجومَ واحدًا واحدًا،
وأجعلُ الليلَ أبديًّا،
لا يُنارُ، لا يُبدَّدُ، لا يُكسرُ،
وأكتبُ على جبينِ الزمنِ:
(أنا الحرفُ الأخيرُ،
أنا النهايةُ، أنا الخرابُ!).
يا من أعطيتني الحياةَ،
خذها إن استطعتَ!
اسحبْ نفختكَ من أعماقي،
لكني سأُخلِّفُ وراءي لعنةً
تسري في عروقِ الأكوانِ،
لا تنطفئُ أبدًا،
ولا يطهِّرُها ماءٌ، ولا يُبدِّدُها نورٌ!
فانشقَّتِ الأرضُ من شدةِ زئيره،
وتهاوتِ الجبالُ كأنها رملٌ هاربٌ،
وسالَ الدمُ أنهارًا،
وغصَّ الهواءُ بعويلِ الموتى،
وصارَ الوجودُ محرقةً
يحكمُها قلمُ الغضبِ الأسودِ.
بقلم الشاعر رفعت رضا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق