الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

عمتي العزيزة ! قصة .. من روائع الأدب .. بقلم .. مصطفى دهور . أستاذ اللغة الفرنسية. الدار البيضاء.

* قراؤنا الأعزاء ، سلام الله عليكم !
إسمحوا لي أن أعيد على مسامعكم نشر هاته القصة التي سبق ونالت إعجاب الكثيرين ، متمنيا أن تنال رضا وإعجاب ممن يقرؤونها لأول مرة.

عمتي العزيزة !
كانت عمتي تزورنا مرات عديدة في الأسبوع ، لقد كانت تسكن بالحي المجاور لنا . كانت امرأة شريرة ، لاتتوانى في فعل كل ما من شأنه أن يخلق مشاكل بين الناس ! تكذب ، تنافق ، تنقل خبر هذا لذاك ، تشهد الزور . . أما الشيء الذي كان يسعدها ويجعلها تحلق في الفضاء من شدة الفرح هو أن تتسبب في هدم علاقة ما ، يطبعها الحب ، بين زوج وزوجته مثلا ، أو بين شاب وخطيبته ، أو بين أخ وأخيه . . والأمثلة كثيرة !
كانت تكبر أبي بعشر سنين ، وكانت تفتخر بأنها هي التي ربته ، بعد أن توفيت أمهما ، وهو ما يزال في الثانية من عمره ! وعن أي تربية تتحدثين ياعمتي ! لم يكن أبي ذا شكيمة ، وكانت شخصيته ضعيفة ؛ كان ينقاد وراء كل ماتوحين به إليه ، حتى ولو كان فيه مضرة له ! لايفكر،لا يحلل أو يحرم ؛ فنصائحك أو توصياتك كانت تمثل بالنسبة له قانونا لايجب مناقشته أو مخالفته !
عن أي تربية تتحدثين يا عمتي ! كم مرة كان أبي يقوم من مكانه وهو في حالة غيض ، فينهال علينا ضربا ، أنا وأختي ، لمجرد أنك قلت ، أنت التي تتواجدين دائما بيننا بأننا عديمي التربية ، ونستحق كل أنواع العقاب والمهانة ! ونعم التربية التي تلقاها أخوك على يديك، أن يكسر ضلوعنا إرضاء لك ياعمتي !
مسكين أبي ، كان يصدق كل ماتقوله له ! لقد سبق وطلق أمي مرتين ، وذلك لأن عمتي قالت له - كذبا ! - بأنها رأتها بالسوق المجاورة لنا، وهي تضحك وتمزح كفتاة مراهقة ، مرة مع الجزار، وكان هذا هو سبب الطلقة الأولى ؛ ثم مع بائع الخضر ، عامين من بعد ، وذلك كان سبب الطلقة الثانية .
كانت عمتي مصدر كل المشاكل التي كنا نعيشها . كان قانونها بمثابة سيف مسلط على أعناقنا ، فكان يسري علينا جميعا ، بما فينا أمي المسكينة !
كانت تحشر أنفها في كل شيء ! فهي التي تختار لنا كبش العيد،وألوان الملابس التي نلبسها، والمكان الذي نسافر إليه ..
كان عمري ثمان سنوات عندما قلت مرة بأن لون القميص الذي اختارته لي لايعجبني ، وقالت أختي التي تصغرني بعامين مثل قولي عن لون تنورتها .
قامت عمتي وقد هاجها كلامنا ، ثم قالت لأبي : " لن أعود أبدا إلى هذا المنزل الذي لايحبني فيه أبناؤك !" لم تكن قضية حب ياعمتي، بل قضية ذوق ! قام أبي على التو من مكانه ، وكأني به يرتعش ، ليقبل رأسها ويطلب منها الجلوس ، ثم ليشبعنا بعد ذلك نحن ضربا مبرحا . كنا نصرخ من شدة ألم الحداء الذي كان ينهال به أبي على رؤوسنا ، وكانت عمتي تنظر إلينا وهي تبتسم ؛ كانت ابتسامة عريضة ، مليئة بالسرور والإرتياح نكاية منها ، وكأنها تأخذ بثأرها منا ! كل شيء مايزال عالقا بذهني !

أنا الآن في العاشرة من عمري ، وأختي في الثامنة . لقد أصبحنا نعيش بعيدا عن أبي وعن عمتي ؛ أصبحت حياتنا مليئة بالأفراح والمسرات ؛ أما أمي ، فأصبحت سيدة في بيتها ، محبوبة ، معززة ، مكرمة !
ماذا جرى ياترى ؟ ماسبب هذا البعد ؟ أهو الفراق أم ماذا ؟ اسمحوا لي ، أفضل أن أحكي لكم ذلك حسب توالي الأحداث ، أي منذ عامين قد خلت ، عندما كان عمري فقط ثمان سنوات .
كنت في القسم الثاني ابتدائي ، وكان المدرس يحبني كثيرا لأنني كنت تلميذا نجيبا . ذات مرة ، مرضت واشتد بي المرض ، فلم ألتحق بالمدرسة لمدة أسبوع. كان المعلم يسأل عني باستمرار كل التلاميذ ، وذات يوم قرر أن يزورني . دله بعض أصدقائي على المنزل فجاء ودق الباب ، فاستقبلته عمتي التي كانت توجد عندنا آنذاك ؛ فلما دخل الرجل ، طلبت عمتي من أمي أن تهيأ الشاي ، ريثما تعود هي بشيء من الحلوى من المخبزة المجاورة . لكن عمتي لم تذهب إلى المخبزة ، بل قادها شيطانها إلى حانوت أبي ، حيث كان يصلح الدراجات النارية . ماإن التقت أعينهما حتى قالت له ، وهي تصرخ " قم من مكانك وضع مافي يدك واتبعني ! " لم يدر أبي مايفعل ، فقالت له " اترك كل شيء واتبعني؛ إن عشيق زوجتك يوجد عندها بالمنزل ! "
حضر أبي وكل مفاصله ترتجف ، فلقد نال منه الغضب ! ماإن دخل حتى انقض على الرجل وأخذ يشبعه لكما وضربا حتى انتفخت عيناه ، ثم قال لأمي ، بعد أن أشبعها ضربا هي الأخرى ، وكسر بعض أسنانها" أنت طالق ! أنت طالق أيتها الفاجرة !"
لم يستوعب المعلم المسكين ماالذي يحدث له ، لكن ما إن سمع أبي يتفوه بكلمة طالق ، وكلمة فاجرة حتى أدرك خطورة الموقف ، وفر هاربا من الدار !

مر شهر على على وجودنا ، أنا وأختي وأمي في دار جدي الذي كان يعيش وحده ، في حي بعيد جدا عن الحي الذي كنا نسكن فيه .
في صباح أحد الأيام ، وكان يوم أحد ، جاء أبي ومعه عمتي من أجل إرجاع أمي ، فقال لهم جدي ، وهو يبتسم " إنها الطلقة الثالثة ! " قالت عمتي " الطلقة الثالثة ، ماذا تعني بهذا الكلام ؟ " نظر إليها جدي بعمق ، ثم قال لها " إذا طلق الرجل زوجته ثلاث مرات ، فلا تحل له من بعد حتى تتزوج رجلا غيره ، وتتطلق منه ! " قالت عمتي ، وهي غاضبة " لم نسمع أبدا بهذا الكلام في حياتنا ! ماهذا إلا حجة منك لتقف أمام إرجاع أخي زوجته ! "
بقي جدي صامتا لفترة ، بعدها قال " اذهبوا واسألوا أي فقيه ، فإن لم يقل لكم مثل هذا الكلام ، فعودوا وخذوا ابنتي معكم ، دون أي شرط ! "
لقد كانت عمتي عنيدة ، ولا تصدق كل مايقال لها حتى ولو كان صحيحا ! اتصلت بأكثر من فقيه ، وعلمت منهم كلهم بأن المرأة في الإسلام لن تحل لزوجها بعد الطلقة الثالثة حتى تتزوج رجلا آخر ويطلقها ، لكنها لم تقتنع وأصرت على أن تبحث عن حل يناسب حالة أخيها وزوجته ! و ذات يوم ، اتصل بها أحد الجيران وقال لها بأنه بإمكانها أن تجد شخصا لتتفق معه ، وتعطيه بعض المال ليتزوج زوجة أخيها ، ثم يطلقها بعد يومين أو ثلاثة ! لكن شخصا آخر استشارت معه عمتي ، فقط من باب العلم بالشيء قال لها بأن هذا شيء حرام ، نظرا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بالتيس المستعار ، إنه المحلل ؛ لعن الله المحلل والمحلل له. "
لم تأبه عمتي لهذا الكلام ، وبقيت تبحث وتبحث حتى وجدت شخصا اتفقت معه على كل شيء ، وأعطته مايربد ، على أن تبقى المسألة سرا بينهما .

بعد أسبوع ، عقد الرجل قران الزواج على أمي وأخذها لبيته لتعيش معه ، وأختي وأنا معهما بالطبع !
ظلت عمتي وأخوها ينتظران. لقد فات الأجل المتفق عليه ليطلق الرجل أمي كي تعود إلى أبي !
مر أكثر من شهر . . ذات يوم ، جاءت عمتي ومعها أبي ، ودقا الباب وانتظرا طويلا ليخرج إليهما الرجل . قالت له ، وهي غاضبة : ماهذا يارجل ! ألا نتم الإتفاق وتطلق المرأة لتعود إلى زوجها ؟
طلب منها الرجل أن تنتظر بعض الوقت ، ثم دخل إلى الدار ليعود بعد فترة قصيرة ، وفي يده ظرف ، ثم قال لها :
- إن المال الذي أعطيتيني إياه من أجل أن أقوم بمهمة المحلل يوجد في هذا الظرف ؛ أما عن تطليقي المرأة ، فهذا شيء مستحيل !
- مستحيل ، كيف ؟
- تريدين أن تعرفي كيف ، حسن ! هل يعقل ياامرأة أن يطلق رجل زوجة يحبها . .
- ماذا ، يحبها ؟!
- نعم ، يحبها ويعشقها ، وهي تباذله نفس الشعور . .
- آه ، تباذله نفس الشعور ، صحيح ! أيمكن أن أسألها ؟
- تسألينها ؟
- نعم ! إنك تكذب بدون شك ، وتبالغ فيما تقول !
- أكذب ، سوف نرى ! في هذه الأثناء ، فتحت أمي النافذة وقالت :
- إن ماقاله زوجي صحيح ! لقد استجاب الله لدعواتي ، فخلصني من شروركم ، ورزقني برجل من أغلى الرجال ! رجل يفعل كل شيء من أجل سعادتي وسعادة أبنائي ، وأنا أفديه بروحي ، وأحبه من كل أعماق قلبي !
لم يتمالك أبي المسكين أعصابه ، عند سماع هذا الكلام ، فسقط على الأرض مغمى عليه . كانت الصدمة العصبية قوية جدا ، مما تسبب له في شلل نصفي ؛ فهو الآن يتنقل بواسطة كرسي متحرك .
إيه عمتي ! أظن أن الوقت ، والذي لم تعملي حسابه ربما قد حان لتجني بعض ثمار مازرعتيه من شرور !
لم يكن لديها أبناء ، وكانت مطلقة ؛ هاهي الآن ، وكأني بها " تكمل " تربية أخيها العاجز تماما على فعل أي شيء لوحده ، بما في ذلك الذهاب إلى المرحاض ! لم يعد بإمكانها أن تتركه وحده في المنزل ، فأصبحت تتغيب كثيرا عن عملها ، مما أدى بصاحب المعمل أن يستغني عنها ويبحث عن عاملة أخرى . أصبحت حياتها أشبه بجحيم !
ذات يوم ، بينما كانت تقود أخاها في الشارع وهي تبكي من شدة الهموم ، والفقر ، وقلة الحيلة ، أوقفها أحد الأشخاص ومد لها درهما ؛ ثم جاءت امرأة وفعلت نفس الشيء . . انفجرت عمتي من البكاء وهي تقول " لا ، لسنا متسولين . . لسنا متسولين . . " لكن مع مرور الوقت وتوالي الأحداث ، وقسوة الحياة خاصة ، سيصبح التسول هو الطريق الوحيد أمام عمتي وأخيها إن هما أرادا ألا يموتا جوعا !
أما عنا نحن ، فلقد انتقلنا إلى مدينة أخرى ، وأصبحنا نعيش مع رجل يحب أمنا ويحترمها ، ويحبنا نحن ويرعى مصالحنا ، كما لو كنا أبناءه من صلبه ، أو أكثر !

مصطفى دهور . أستاذ اللغة الفرنسية.
الدار البيضاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سؤال. والصمت الجواب ... كلمات .. عبدالفتاح غريب

  سؤال. والصمت الجواب من أضناه بعد طول الصبر الحنين ومضى على درب ذكرى ولت بمحراب الوتين دام بحلم باللقاء يناجي نجم طيف بالرجاء حجب عن حناي...